أثر عباس محمود العقاد فی سید قطب ومنـهجه

الكاتب د.هدى محمد قزع

شاءت الأقدار أن یلتقی سید قطب بعباس محمود العقاد فی مجالسه العلمـیة والثقافیة ، جواب تعیین رشته نیه متمرکز بر اساس سوابق تحصیلی وكان لهذا اللقاء أثر بارز على ثقافته وفكره وأدبه.

ولم یكن اللقاء الشخصی بینـهما هو الجامع الوحید ، فهما تشابها فی أشیـاء عدة صدفة ، من مثل نشأتهما فی البیئة المصریة ، فالعقاد من أسوان ، وسید من قریة موشة فی أسیوط ، وهما أدیبان وشاعران وناقدان ، وكلاهما كان عضوا فی حزب الوفد ثم تركه ، وكل منـهما لم یوفق فی حیـاته الاجتماعیة والعاطفیة ، فهما أمضیـا حیـاتیـهما دون زواج ، رغم محاولة سید الخِطبة إلا إن محاولته باءت بالفشل ومن یقرأ روایته "أشواك" یستبین هذا .

أما صلة سید قطب الشخصیة بالعقاد فقد بدأت منذ مشارف حیـاته حینما قدم إلى القاهرة ، وزار مكتبته والتقى فیـه ، وثمة أسباب مساعدة على هذا اللقاء منـها إقامته أثناء دراسته الثانویة فی بیت " أحمد حسین عثمان" فی القاهرة ، الذی كان على معرفة وصلة بالعقاد ، إضافة إلى قرب مكان سكنـه منـه ، وسحر شخصیة العقاد ، ومكتبته الضخمة ومجالسه التی وجَد فیـها سید قطب بعض ضالته.

ولایخفى على أحد أن العقاد كان علما بارزًا فی الثقافة والأدب، , وأنـه أسس مدرسة وشاركه فیـها بعض الأدباء لفترة من الزمن مثل عبد القادر المازنی ، وعبد الرحمن شكری، وتتلمذ علیـه فی هذه المدرسة عدد من التلامـیذ أظهرهم سید قطب.

وقد جاهر سید بتتلمذه على العقاد ، ومن دلائل وفائه لهذه التلمذة أنـه قرأ جل ما كتب العقاد من كتب ومقالات وشعر وأبحاث ودراسات ، ثم حرص على عرض ما قرأ فی الصحف والمجلات ، فهو تحدث عن العبقریـات وعن الصدیقة بنت الصدیق وعن عرائس وشیـاطین وعن شاعر الغزل وعن هذه الشجرة فی مقالات نقدیة اتشحت بسمة التقدیر لقیمة ما خط أستاذه.

وكثیرًا ما سعى لإبانة معالم مدرسته فقال: جواب تعیین رشته نیه متمرکز بر اساس سوابق تحصیلی " هی مدرسة فی الأدب ، كما أنـها مدرسة فی الحیـاة ، یلتقی فیـها تلامـیذها على سنن واضح ، ونـهج صریح ، ویجدون فیـها تفسیرًا معینا للحیـاة والفنون ، یشتمل نوع الإحساس ، ولون التفكیر ، وطریقة التعبیر، بل یشتمل فوق ذلك قواعد المنطق والسلوك ، وتقویم الأشیـاء والأشخاص ، وتقدیر الحوادث والأعمال . جواب تعیین رشته نیه متمرکز بر اساس سوابق تحصیلی وهی مدرسة متبلورة ، واضحة السمات ، لا یجد الناقد مشقة ولا عسرا فی اختیـار عنوان لها ، یمثل ویلخص أكبر ما تستطیع العنوانات تمثیله وتلخیصه : هی مدرسة المنطق الحیوی . جواب تعیین رشته نیه متمرکز بر اساس سوابق تحصیلی والنسبة هنا إلى الحیـاة وإلى الحیویة جمـیعًا..إلى الحیـاة : لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل ، هو ما تقوله الحیـاة ، وما تصنعه . وإلى الحیویة : لأن مرد الحكم على كل قول وكل عمل ، هو باعثه ، ومدى الحیویة فی هذا الباعث.أستاذ هذه المدرسة الأعظم ، هو الحیـاة ذاتها "(1) .

وجهِد سید فی استبانة جوانب من شخصیة العقاد وحدثنا عن بعض هذا الجهد فقال:" ولقد رقیت إلى محاولة استیعاب العقاد _وأفلحت إلى مدى_ على درجٍ من دراسات شخصیة جمة . لیست دراسة الأدب العربی ولا اللغة العربیة إلا أولى خطواتها . دراسات تشمل كل ما نقل إلى اللغة العربیة _ على وجه التقریب _ من الآداب الإفرنجیة : قصة وروایة وشعرًا .ومن المباحث النفسیة الحدیثة : نظریـات العقل الباطن ، والتحلیل النفسی والمسلكیة . ومن المباحث الاجتماعیة والمذاهب القدیمة والحدیثة , ومن مباحث علم الأحیـاء _ بقدر ما استطعت _ وما نشر عن داروین ونظریته ، ومن مباحث الضوء فی الطبیعة والتجارب الكیماویة ، وما استطعت أن أفهمـه عن أینشتاین والنسبیة ، وتحلیل الذرة وعلاقته بالإشعاع " (2).

و شدت شخصیة العقاد نفس سید قطب له، ودفعته فی أحیـان كثیرة إلى التعصب ، والغیرة العلمـیة علیـه ، وقال مصرحا بهذا : " أنا لا أنكر أننی شدید الغیرة على هذا الرجل ، شدید التعصب له ؛ وذلك نتیجة فهم صحیح لأدبه ، واقتناع عمـیق بفطرته ، لا یؤثر فیـه أن تجف العلاقات الشخصیة بینی وبینـه فی بعض الأحیـان " (3) .

وفی هذا القول غلو وإفراط یخرج حكم سید على العقاد من الموضوعیة . فمثلًا بعد وفاة "أحمد شوقی" أراد طه حسین أن یطری على العقاد فأطلق علیـه لقب "أمـیر الشعراء" . فاعترض علیـه سید قطب قائلًا : " ورأیی أن هذا اللقب غیر لائق بالعقاد ! لأن المسافة بینـه وبین شعراء العربیة فی هذا العصر أوسع من المسافة بین السوقة والأمراء... قد یكون هناك كُتَّاب یتقاربون مع العقاد .ولكنـهناك شعراء فی لغة العرب ، یتقاربون مع العقاد.ولقد كنت هممت بإصدار بحث عن الشعراء المعاصرین ، ونظرت فی أدب جمـیع الشعراء الأحیـاء _ وأنا بینـهم _ ولكن عاقنی عن إصدراه أننی لم أجد نقاط اتصال بین العقاد الذی سأكتب عنـه أولًا ، وبین جمـیع الآخرین من الشعراء .الفرق هائل جدًا ، وأكبر مما یتصوره الأكثرون ، بین طاقة هذا الشاعر ، والطاقات الأخرى. وسیغضب لقولتی هذه كثیر من أصدقائی الشعراء المعاصرین ، ولكنـهم لیسوا أكرم علیّ من نفسی ، وأنا حسن الظن بشعری _ ولیعذرنی أنصار مبدأ التواضع _ولكننی حین أضعه أمام شعر العقاد یتلاشى ، وتحتبس نفسی عن التعبیر ، حتى یسكن صدى شعر العقاد فی نفسی " (4) .

ودفعه غلوه إلى عد العقاد شاعر العالم أجمع ، إذ قال : "نحن لا ننصفه حین نتحدث عن اللغة العربیة وحدها ، ولكننا نقول ذلك مؤقتا ، لأنـها اللغة التی نستطیع الحكم على آدابها ، حكمًا نملك أدلته كلها ، ونجزم فیـها بالصواب . وإلا فبین یدی معربات كثیرة ، لشعراء من الغرب مشـهورین معروفین ، مثل بیرون وشیلی وألفرید دی موسیـه وفكتور هوجو لا أرى فیـها من تعدد الجوانب الصادقة الأصیلة ، ما أراه فی غزل العقاد وشعره عامة" (5).

ونتج عن غلوه فی تقدیر العقاد ، وجود خصوم له من الأدباء الذین هاجموه بشدة ، واتهموه بأنـه مقلد له فی كل ما ذهب إلیـه من فِكَر .ومن بین خصومـه "صلاح ذهنی" الذی دارت بینـه وبین سید قطب معركة أدبیة . وقد قال سید عن اتهام صلاح ذهنی له ، وردّه علیـه " وثالثة الشتائم فی القائمة : أننی ظِل العقاد فی الظهیرة ! فلأكرر هنا ما قلته من قبل للدكتور مندور : إننی أفهم المسائل على نحو غیر الذی یفهمـه بعض " شبان" الجیل . إننی لا أحاول إنكار تلمذتی للعقاد ، لأن لدی ما أقوله وما أبدعه وراء ذلك ، فلست أخشى على وجودی حین أعترف بهذه الأستاذیة ، وهی حق ، فلا یسمح لی خلقی أن أنكرها أشد الإنكار ، وأن أبرأ منـها كل البراءة ، كما كان الأستاذ صلاح یصنع ویتشنج حین یقال : إنـه من تلامـیذ تیمور" (6).

وكانت أعنف المعارك الأدبیة ، التی هاجمـه فیـها خصومـه بشدة ، تلك التی دارت على صفحات مجلة الرسالة ، حول أدب العقاد والرافعی ، وقد بدأها سید قطب بكلام له عن أدب الرافعی، فرد علیـه تلامـیذ الرافعی ، منـهم : محمد سعید العریـان ، ومحمود شاكر، وعلی الطنطاوی، ومحمد أحمد الغمراوی .

و ع سید قطب عن العقاد بكل كتبه وندواته ، و أفاد من هذا الدفاع عندما كان العقاد فی توافق مع حزب الوفد ، الذی كان له وزنـه فی ذلك الوقت ، فاشتهر سید وشاع ذكره بالنبوغ ، حیث قدمـه العقاد إلى مجلات الوفد وصحفه ورجاله ، فشارك فی ذلك بفاعلیة . ولكن العقاد انفض عن حزب الوفد وهاجمـه ، فحاربه رجال الحزب وتلامـیذه ، وتحول الكتاب عن مدح العقاد ، والكتابة عنـه فی الصحف والمجلات . أما سید قطب فقد ظل وفیًا لأستاذه ولم یتوانى فی الدفاع عنـه ومـهاجمة خصومـه ، وكان من الطبیعی أن یتحمل أعباء هذا الدفاع " أما الدفاع عن العقاد فیكلفنی التعرض لغضب الكثیرین من ذوی النفوذ فی هذه الوزارة _ وفی كل وزارة _ ومن بینـهم كثیر من رؤسائی، فی وزارة المعارف نفسها ، لأن العقاد رجل لم تبق له قولة الحق صدیقًا من السیـاسیین ، وكثیر ممن یظهرون صداقته یكنون له غیر ذلك ، لأنـهم ینْفُسون علیـه شموخه واعتداده بنفسه ، وتعالیـه على الضرورات .ویكلفنی خصومة الأدباء من المدرسة القدیمة والحدیثة على السواء .فأما أولئك ، فسبب سخطهم معروف ، وأما هؤلاء ، فلأنـهم ینفسون على العقاد أن یعطیَه ناقد بعض ما یستحق من تقدیر . ومن لا یعرف هذه الحقیقة ، فأنا _ وقد أتاحت لی الظروف الاطلاع على داخلیة كثیر من الصحف والأدباء _ أعرف ذلك، وأعرف أن الكلمات التی یقدَّر فیـها العقاد لا تجد طریقها سهلًا للظهور فی الصحف ، على اختلاف أهوائها ونزعاتها السیـاسیة ، واختلاف المشرفین علیـها من الأدباء وغیر الأدباء.ویكلفُنی خصومة كثیر من ناقصی الرجولة __وهم أعداء العقاد الطبیعیون __ وكثیر من ناقصی الثقافة ، الذین لا یفهمون العقاد ، فیحمِّلونـه تبعة عدم فهمـه ، ولا یكلِّفون أنفسهم عناء الدرس والثقافة !وكثیر من مغلقی الطِّباع ، الذین یستغلقون أمام كل أدب حی .وكثیر وكثیر ممن یؤلِّفون أكثریة القراء فی هذا البلد المنكوب ..وقد یفهم هؤلاء النفعیون ، أن للعقاد الآن نفوذًا ننتفع بـه ، فلهؤلاء أقول: إن للعقاد نفوذًا نعم ، ولكنـه لا یستخدمـه فی قضاء المصالح ، وتنفیذ الأغراض...وذلك بغض النظر عن طبیعتی الخاصة ، فی الانتفاع بنفوذ الأصدقاء ، ذلك الانتفاع الذی یبدو غیر مفهوم ، حینما كنت أناصر العقاد وهو خصم الوزارات القائمة ، وأوقِّع على ما أكتبه بإمضائی الصریح ، فی أحرج الأوقات ..." (7) .

ولكن لا بد من إنصاف سید قطب لأن غلوه هذا لم یستمر ، ، إذ تحول لتقویم فكر العقاد وأدبه . فانتقد دیوان " هدیة الكروان" مع دیوانین آخرین ، هما دیوان صالح جودت والینبوع لأحمد زكی أبو شادی ، وكان ذلك فی مقاله النقدی فی " الأهرام " الأدبیة عام 1933م .

قال سید قطب عن ذلك المقال ، وعن المأخذ الذی أخذه على العقاد فی دیوانـه وغیره ، وعن أثر ذلك النقد على العقاد ، وعن رده علیـه: " فأما هدیة الكروان فقلن عنـها : إنـها منتهى النضوج الفنی للعقاد، وإنـها سلمت من بعض أشیـاء ، كانت تغض من الجمال الفنی الكامل ، لبعض شعر العقاد ، وهی ما أسمـیته قسوة القالب ، وعنیت بـه أن یَحْتَجنَ الشعورُ الطلیق فی ثوبٍ أضیقَ وأقسى مما یلائم هذا الشعور الطلیق "(8) .

...فأما العقاد ، فهوساخط حانق، ساخط لأنی جمعت بینـه وبین أبی شادی فی مقال . وحانق لأن أقول شیئا عن قسوة القالب فی بعض شعر العقاد ، وأقابلُه فیعلن هذا السخط ، وهذا التبرم .إنـه لا یسلم بقسوة القالب فی بعض شعره ، ولا یبیح لی أن أوجه هذا النقد له.لأن منشأه هو قصوری عن فهم شعره ، وإن على الناقد أن یرتفع لمستوى الشاعر ، ولیس على الشاعر أن یـهبط لمستواه . وكان العقاد مـهتاجًا ، ولكننی كنت هادئ الأعصاب...وذكرت له أن الناقد الذی یكتب محاضرته عن دیوان وحی الأربعین للعقاد ، فیفهم دقائقه فهمًا یرضى عنـه العقاد ، لا یقصر عن فهم هدیة الكروان وهی أسهل من وحی الأربعین . وافترقنا ، وفی نفس العقاد شیء أحسه ، ولكننی آسف له ، وإن كنت لا أنوی التأثر بـه " (9) .

وقد حدث سید قطب أحمد فؤاد الأهوانی عن طبیعة صلته بالعقاد ، ، وعن مخالفته لبعض آرائه فی الشعر والأدب فقال: " وحتى العقاد ، وصلتی بشخصه معروفة ، وصلتی بأدبه أوثق مرات من صلتی بشخصه _ ولو فهم الكثیرون غیر هذا_ كتبت عنـه فی كل مرة بالعقیدة الفنیة التی أعتقدها . وقد یبدو فیما كتبته أخیرًا عن العقاد الشاعر فی كتب وشخصیـات أننی أختلف معه فی بعض الأحیـان ، على تعریف الشعر وتذوقه ، وعلى النظرة إلى العاطفة وأطوارها .ولكنـه اختلاف الرأی والإحساس ، الذی لا بدّ أن یقع بین شخصیة وشخصیة، متى تبلورت الشخصیتان ، وظهرت معالمـهما واضحة ، ولو كانتا شخصیتی التلمـیذ والأستاذ "(10) .

وانتقد سید قطب فهم العقاد للشعر والأدب فی ثلاث مقالات موجزة ، جعلها بعد ذلك فی كتابه "كتب وشخصیـات" .و خصص مقالة أخرى مطولة خاصة لنقد شعر العقاد ، جعلها فصلًا من الكتاب ، هی " العقاد الشاعر وأعاصیر مغرب" (11) .

قال فیـها " فی وضح النـهار یعیش العقاد قمته حین تبلغ الحیویة تدفقها ، فتجرف المنطق الواعی ، وتغطی علیـه ...فأما حین یضعف هذا التدفق ، فیتجرد الشعر من اللحم والدم ، ویخیّل إلیك أن مكانـههنا فی الدیوان ، ولكنـه هناك فی كتبه بین التأملات الفكریة والقضایـا المنطقیة "(12).

وبدأ سید قطب ینفك تدریجیًا عن مدرسة العقاد ،إلى أن أعلن تخلیـه عنـها ، وكان ذلك فی عام 1948 ، حیث نشر مقالًا فی مجلة الكتاب ، فی نقد دیوان لزومـیات مخیمر للشاعر أحمد مخیمر أحد تلامـیذ العقاد ، قال فیـه :" لقد آن لنا أن نفهم الشعر ، لا على طریقة مدرسة شوقی وحافظ والمنفلوطی ، ولا على طریقة مدرسة العقاد وشكری والمازنی...فكلتاهما مرحلتان من مراحل التطور ، قامتا بدوریـهما فی النـهضة ، وآن أن یخلفهما فهم للشعر جدید .لقد قامت أولاهما ، على أساس أن الشعر جزالة تعبیر ، وجلجلة إیقاع ، وابتداع أخیلة ، وبراعة تناول، ومقدرة وأداء...وعلى الإجمال مـهارة صناعة تعبیریة وتخییلیة ، ولا شیء وراء ذلك ، مما له علاقة بصمـیم النفوس ، وحقائق الشعور ..وقامت أخراهما على أساس أن الشعر صور حیـاة ، وخلجات نفوس ، وسمات شخصیـات ، وحقائق شعور ...وهذا كله صحیح . ولكن هذه المدرسة عند التطبیق العملی لفهمـها للشعر ، كانت طاقتها الشعریة أقل من تصورها للشعر ، فجاء نتاجها الشعری_فی عمومـه_ ناقص الحرارة ، غیر مكتمل الشاعریة . وظلت _إلا قلیلاً _تمتح من تصورها الواعی للشعر ، قبل أن تفیض من شعورها الكامن فی الضمـیر..لم تفرق هذه المدرسة فی نتاجها بین الفكرة الشعریة والإحساس الشعری..." (13) .

أما إعلانـه الخروج على المدرسة العقادیة ، ففی قوله: " ولست أنكر فتنتی فترة طویلة من العمر بهذه المدرسة كفكرة ، وفتنتی بنتاجها الأدبی كشعر ، وتأثری بها ، إلى الحد الذی أنفقت فیـه شطرًا من عمری ، وأنا أقول الشعر ، لا أفرق فیـه بین الفكرة الجمـیلة الشعریة ، أعتنقها مذهبا ، والإحساس الجمـیل الشعری ، ینبض بـه شعوری ، ویعیش انفعالًا غامضًا فی ضمـیری..ولم أجد نفسی إلا منذ عامـین اثنین ، أنتبه إلى الفارق الأصیل بین الفكرة الجمـیلة ، والشعور الجمـیل .وأجد للشعر مذاقًا آخر ـ غیرر ما سبق لی أن أحسسته ، فی نحو خمسة عشر عامًا أو تزید "(14).

وأبرز الأسباب التی دعت سید قطب إلى مجاوزة مدرسة العقاد ضعف الناحیة الروحیة فی منـهج العقاد ، وهذا ما صرح بـه لأبی الحسن الندوی عندما التقى بـه فی القاهرة سنة 1951 :" إن نفسی لم تزل متطلعة إلى الروح وما یتصل بها ، وكنت فی صغری مشغوفًا بقراءة أخبار الصالحین وكراماتهم ، ولم تزل هذه العاطفة تنمو فی نفسی مع الأیـام.والأستاذ العقاد رجل فكری محض ، لا ینظر إلى مسألة ، ولا یبحث فیـها إلا عن طریق الفكر والعقل . فذهبت أروی نفسی من مناهل أخرى، هی أقرب إلى الروح . ومن ثم عنیت بدراسة أشعار الشرقیین ، كطاغور وغیره "(15) .

ومن الأسباب الأخرى استجابة العقاد لبعض الضغوطات السیـاسیة بعدما امتد بـه العمر ، قال سید قطب للندوی :" إنی كنت أعتقد أن مثل العقاد فی عقله الكبیر ، وشخصیته العظیمة ، لا یخضع للضرورات والملابسات ، كالحكومة والسلطة ، ولكنـه سالَمَها"(16) .

وبادل العقاد تلمـیذه الجفاء بسبب اتجاهه الجدید ، ومـیله إلى العمل الحركی الإسلامـی المتمثل فی حركة الإخوان المسلمـین ، وقد كتب عام 1946م مقالًا فی مجلة الرسالة بعنوان "إرادة الغفلة" ، كان یعنی فیـه سید قطب ، ویعده صاحب الغفلة الذی اختار طریق السذاجة وجانب إعمال عقله وفكره وذهنـه " (17) .

وكتب سید قطب فی مقالة بعض العبارات الكاشفة عن صلته القدیمة بالعقاد ، وعن موقفه منـه بعد ذلك: " ودعونی الآن أصارحكم بتجربتی الخاصة ، التی تركت فی نفسی ذات یوم مرارة . ومن أجل هذه المرارة لم أكتب عنـها من قبل ، حتى صفت روحی منـها ، وذهبت عنی مرارتها ، وأصبحت مجرد ذكرى ، قد تنفع وتعظ ...لقد كنت مریدًا بكل معنى كلمة المرید ، لرجل من جیلكم ، تعرفونـه عن یقین . ولقد كنت صدیقًا أو ودودًا مع الآخرین من جیلكم كذلك .لقد كتبت عنكم جمـیعًا بلا استثناء .شرحت آراءكم ، وعرضت كتبكم ، وحللت أعمالكم ، بقدر ما كنت أستطیع .ثم جاء دوری...جاء دوری فی أن أنشر كتبًا ...لقد جاء دوری...متأخرًا كثیرًا ؛لأننی آثرت ألا أطلع المئذنة من غیر سلَّم ، وأن أتریث فی نشر كتب مسجلة ، حتى أحس شیئًا من النضج الحقیقی ، یسمح لی أن أظهر فی أسواق الناشرین ...وأنا الیوم أحمد الله ، على أننی خططت طریقی بنفسی مستقلًا ، وبجهدی خالصًا ...لم یأخذ بیدی عظیم ، ولم یقدمنی إلى الناس أستاذ"(18) .

وبقی سید یبتعد عن العقاد ، ویزداد ابتعاده عنـه ، كلما زاد اقترابه من القرآن والعمل مع الإخوان المسلمـین ،وصار یتمـیز بفهم خاص للقرآن ، وكان فی تفسیره "الظلال" یصوب بعض أفكار العقاد الخاطئة ، من مثل مناقشته له وهو یفسر سورة هود ویعقب على قصة نوح .إذ اتخذ هذه الفرصة لیصحح بعض ما أورده العقاد فی كتابه " الله" (19).

والحدیث عن تصویباته یطول ، لذلك أكتفی بالإشارة إلى نیة سید قطب تألیف كتاب "تصویبات فی الفكر الإسلامـی المعاصر" یخصصه للأخطاء الفكریة المعاصرة التی یقع فیـها المفكرون فی كتابتهم عن الإسلام ، وعلى رأسهم العقاد.

إذا یمكن تلخیص لقاء سید قطب بالعقاد وما ترتب علیـه من آثار وتطورات فی منـهجه الفكری والأدبی والسیـاسی بالآتی : لقد بدأ سید قطب تلمـیذَا للعقاد ثم أعجب بأستاذه وأحبه حبًا جما، ثم ترجم حبه بطریقة صوفیة فأصبح مریدًا، وآل بـه الحال لاعتناق مذهب أستاذه فتبنى منـهجه و جمـیع أفكاره وع عنـها، وهذا التعمق فی المذهب أضاء فی نفسه شرارة الخشیة من الفناء الكامل فی أستاذه ، فحاول الانفكاك ما استطاع إلى ذلك سبیلًا ، وأصبح له فهمـه الخاص فی كثیر من المسائل الأدبیة والفكریة والسیـاسیة ، فخالف مذهب العقاد وصوّب أخطاءه وأبان عن وجه الحق الذی یرتضیـه فی بعض المسائل الدینیة والعقائدیة ، وكانت هذه المخالفة سببا فی جفوة العقاد له ، وعدم اعترافه بقَدْرِه فی أغلب ما خاض من مجالات ، ولم یحمل سید قطب فی نفسه سوى المرارة والإصرار على استكمال مشواره مؤمنًا بأن الحق یعلو على كل شیء وأن الحقیقة والمعرفة لا تنحصر فی مذاهب ولا أشخاص.كان یقول رحمـه الله :"إن كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان ، أما الكلمات التی ولدت فی الأفواه ، وقذفت بها الألسنة ، ولم تتصل بذلك النبع الإلهی ، فقد ولدت مـیتة ، ولم تدفع بالبشریة شبراً واحداً إلى الأمام. إن أصحاب الأقلام یستطیعون أن یصنعوا شیئاً كثیراً ، ولكن بشرط واحد : أن یموتوا لتعیش أفكارهم ، وأن یطعموا أفكارهم من لحومـهم ودمائهم ، وأن یقولوا ما یعتقدون أنـه حق،ویقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق . إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة ، حتى إذا متنا فی سبیلها أو غذیناها بالدماء انتفضت حیة وعاشت بین الأحیـاء ..".

----------------

هوامش المقالة :

(1) مجلة الرسالة ، السنة الثانیة عشرة ، مج2، ع551، 1944، ص91 .

(2) المصدر نفسه ، السنة السادسة ، مج1 ، ع257 ، 1938، ص937.

(3) نفسه ، السنة السادسة ، مج1 ،ع251، 1938، ص692.

(4) نفسه، ص694.

(5) نفسه ، السنة السادسة، مج2 ، ع268، 1938، ص1380_1381.

(6) نفسه ، السنة الثانیة ، مج2 ، ع594 ، 1944، ص1035.

(7) نفسه، السنة السادسة ، مج2 ، ع280، 1938، ص1866.

(8) مجلة الأسبوع ، مج3، ع35، 25/7/1934م ، ص22.

(9) نفسه ، ص22_23.

(10) مجلة الرسالة ، السنة الرابعة عشرة ، مج2 ، ع683، 1946، ص874.

(11) كتب وشخصیـات ، سید قطب ، دار الشروق ، بیروت ، ط3، 1983، ص84، 102.

(12) نفسه، ص84.

(13) مجلة الكتاب، مج5، ج2، 1948، ص248.

(14) نفسه ، ص249.

(15) مذكرات سائح فی الشرق العربی ، أبو الحسن علی الحسنی الندوی ، مؤسسة الرسالة ، بیروت، ط2، 1975 ص96.

(16) نفسه ، ص96.

(17)انظر: مجلة الرسالة ، السنة الرابعة عشرة ، مج1، ع663، 1946، ص289_291.

(18) مجلة الثقافة ، السنة الثالثة عشرة ، ع663، 1951، ص8.

(19) انظر: فی ظلال القرآن، سید قطب ، دار الشروق ، بیروت، ط17 ، مج4، ص1882_1885.




[مترجم عربی - دکتر مـهدي شاهرخ جواب تعیین رشته نیه متمرکز بر اساس سوابق تحصیلی]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Fri, 10 Aug 2018 20:02:00 +0000